فصل: تفسير الآيات (186- 187):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (186- 187):

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} أي فقل لهم إني قريب، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم، روي: أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} تقرير للقرب. ووعد للداعي بالإجابة. {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} أمر بالثبات والمداومة عليه. {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} راجين إصابة الرشد وهو إصابة الحق. وقرئ بفتح الشين وكسرها. واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم تأكيداً له وحثاً عليه، ثم بين أحكام الصوم فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} روي أن المسلمين كانوا إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الآخرة أو يرقدوا، ثم: إن عمر رضي الله عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه، فقام رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت وليلة الصيام: الليلة التي تصبح منها صائماً، والرفث: كناية عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، وإيثاره هاهنا لتقبيح ما ارتكبوه ولذلك سماه خيانة. وقرئ الرفوث {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} استئناف يبين سبب الإِحلال وهو قلة الصبر عنهن، وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس قال الجعدي:
إِذَا مَا الضجِيعُ ثَنَّى عِطْفَهَا ** تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

أو لأن كل واحد منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور. {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} تظلمونها بتعريضها للعقاب، وتنقيص حظها من الثواب، والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} لما تبتم مما اقترفتموه. {وَعَفَا عَنكُمْ} ومحا عنكم أثره. {فالن باشروهن} لما نسخ عنكم التحريم وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن، والمباشرة: إلزاق البشرة بالبشرة كني به عن الجماع. {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} واطلبوا ما قدره لكم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد، والمعنى أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة من خلق الشهوة. وشرع النكاح لاقضاء الوطر، وقيل النهي عن العزل، وقيل عن غير المأتي. والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم. {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل، بخيطين أبيض وأسود، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله: {مِنَ الفجر} عن بيان {الخيط الأسود}، لدلالته عليه.
وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل. ويجوز أن تكون من للتبعيض، فإن ما يبدو بعض الفجر. وما روي أنها نزلت ولم ينزل من الفجر، فعمد رجال إلى خيطين أسود وأبيض ولا يزالون يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت، إن صح فلعله كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائزة، أو أكتفي أولاً باشتهارهما في ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفي تجويز المباشرة إلى الصبح الدلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم المصبح جنباً {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} بيان لآخر وقته، الليل عنه فينبفي صوم الوصال {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} معتكفون فيها والاعتكاف هي: اللبث في المسجد بقصد القربة. والمراد بالمباشرة: الوطء. وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك. وفي دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد ولا يختص بمسجد دون مسجد. وأن الوطء يحرم فيه ويفسده لأن النهي في العبادات يوجب الفساد. {تِلْكَ حُدُودُ الله} أي الأحكام التي ذكرت. {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يداني الباطل، فضلاً عن أن يتخطى عنه. كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه». وهو أبلغ من قوله: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} ويجوز أن يريد ب {حُدُودَ الله} محارمه ومناهيه. {كذلك} مثل ذلك التبيين {يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مخالفة الأوامر والنواهي.

.تفسير الآية رقم (188):

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
{وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} أي ولا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى. وبين نصب على الظرف، أو الحال من الأموال. {وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} عطف على المنهي، أو نصب بإضمار أن والإدلاء الإلقاء، أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام. {لِتَأْكُلُواْ} بالتحاكم. {فَرِيقاً} طائفة. {مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم} بما يوجب إثماً، كشهادة الزور واليمين الكاذبة، أو ملتبسين بالإثم. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مبطلون، فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح. روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض ولم يكن له بينة، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس، فهم به فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا} الآية. فارتدع عن اليمين، وسلم الأرض إلى عبدان، فنزلت. وفيه دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطناً، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار».

.تفسير الآية رقم (189):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة} سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا: ما بال الهلال يبدو دقيقاً كالخيط، ثم يزيد حتى يستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا {قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها. وخصوصاً الحج فإن الوقت مراعي فيه أداء وقضاء. والمواقيت: جمع ميقات، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان: أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها. والزمان: مدة مقسومة، والوقت: الزمان المفروض لأمر. {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء، والباقون بالكسر. {ولكن البر مَنِ اتقى} وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف {ولكن}، ورفع {البر}. كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا داراً ولا فسطاطاً من بابه، وإنما يدخلون من نقب أو فرجة وراءه، ويعدون ذلك براً، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر من اتقى المحارم والشهوات، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين. أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضاً من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد، أو أنهم لما سألوا عمّا لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها، أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه. والمعنى: وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر بر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله. {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها. {واتقوا الله} في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي تظفروا بالهدى والبر.

.تفسير الآية رقم (190):

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه. {الذين يقاتلونكم} قيل: كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين. وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء، أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده. ويؤيد الأول ما روى: أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة شرفها الله ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم. أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت {وَلاَ تَعْتَدُواْ} بابتداء القتال، أو بقتال المعاهد، أو المفاجأة به من غير دعوة، أو المثلة، أو قتل من نهيتم عن قتله. {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} لا يريد بهم الخير.

.تفسير الآية رقم (191):

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)}
{واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} حيث وجدتموهم في حل أو حرم. وأصل الثقف: الحذق في إدراك الشيء علماً كان أو عملاً. فهو يتضمن معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال:
فأمَّا تَثْقِفُوني فَاقتُلُوني ** فَمَنْ أُثْقُفْ فَلَيْسَ إلى خُلُودِ

{وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من مكة، وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح. {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة التي يفتتن بها الإنسان، كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. وقيل: معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه. {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ} أي لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد الحرام. {فَإِن قاتلوكم فاقتلوهم} فلا تبالوا بقتالهم ثم فإنهم الذين هتكوا حرمته. وقرأ حمزة والكسائي {وَلاَ تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فِيهِ فَإِن قاتلوكم}. والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم: قتلنا بنو أسد. {كذلك جَزَاء الكافرين} مثل ذلك جزاؤهم يفعل بهم مثل ما فعلوا.

.تفسير الآيات (192- 193):

{فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
{فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن القتال والكفر {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم ما قد سلف {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} شرك {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} خالصاً له ليس للشيطان فيه نصيب. {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الشرك. {فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين} أي فلا تعتدوا على المنتهين إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم، فوضع العلة موضع الحكم. وسمي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة كقوله: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر عليكم، والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء.

.تفسير الآية رقم (194):

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
{الشهر الحرام بالشهر الحرام} قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به. {والحرمات قِصَاصٌ} احتجاج عليه، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص. فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم. كما قال: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} وهو فذلكة التقرير. {واتقوا الله} في الأنصار ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم. {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} فيحرسهم ويصلح شأنهم.

.تفسير الآيات (195- 199):

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
{وَأَنفِقُواْ في سَبِيلِ الله} ولا تمسكوا كل الإِمساك. {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} بالإسراف وتضييع وجه المعاش، أو بالكف عن الغزو والإِنفاق فيه، فإن ذلك يقوي العدو ويسلطهم على إهلاكهم. ويؤيده ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: لما أعز الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت، أو بالإمساك وحب المال فإنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد، ولذلك سمي البخل هلاكاً وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد، والإِلقاء: طرح الشيء، وعدى بإلى لتضمن معنى الانتهاء، والباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس، والتهلكة والهلاك والهلك واحد فهي مصدر كالتضرة والتسرة، أي لا توقعوا أنفسكم في الهلاك وقيل: معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها فحذف المفعول. {وَأَحْسِنُواْ} أعمالكم وأخلاقكم، أو تفضلوا على المحاويج. {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} {وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله} أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ {وَأَقِيمُواْ الحج والعمرة لِلَّهِ}، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه أنه قيل: يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج، فقال: «لا ولكن إن تعتمر خير لك» فمعارض بما روي: «أن رجلاً قال لعمر رضي الله تعالى عنه، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ أهللت بهما جميعاً، فقال: هديت لسنة نبيك» ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما، لأنه رتب الإِهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإِهلال دون العكس. وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، أو أن تفرد لكل منهما سفراً، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي، أو أن تكون النفقة حلالاً. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي، مثل صده وأصده، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} ولنزوله في الحديبية، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام: «من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل» وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإِحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير: «حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} فعليكم ما استيسر، أو فالواجب ما استيسر. أو فاهدوا ما استيسر. والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر.
لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث به، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلاً كان أو حرماً، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجب القضاء، والمحل بالكسر يطلق على المكان والزمان. والهدي: جمع هدية كجدي وجدية، وقرئ: {مِنَ الهدىي} جمع هدية كمطى في مطية {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} مرضاً يحوجه إلى الحلق. {أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ} كجراحة وقمل. {فَفِدْيَةٌ} فعلية فدية إن حلق. {مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} بيان لجنس الفدية، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة: «لعلك آذاك هَوَامُكَ، قال: نعم يا رسول الله قال: احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة» والفرق ثلاثة آصع {فَإِذَا أَمِنتُمْ} الإِحصار. أو كنتم في حال سعة وأمن. {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} فَمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره. وقيل: فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإِحرام إلى أن يحرم بالحج. {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} فعليه دم استيسره بسبب التمتع، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى، إنه دم نسك فهو كالأضحية {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي الهَدي. {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج} في أيام الاشتغال به بعد الإِحرام وقبل التحلل. قال أبو حنيفة رحمه الله في أشهره بين الإحرامين، والأَحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه. ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين. {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقرئ: {سَبْعَة} بالنصب عطفاً على محل {ثلاثة أَيَّامٍ}. {تِلْكَ عَشَرَةً} فذلكة الحساب، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو، كقولك جالس الحسن وابن سيرين. وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما {كَامِلَةٌ} صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي.
{ذلك} إشارة إلى الحكم المذكور عندنا. والتمتع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية. {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم، أو في حكمه. ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك. {واتقوا الله} في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصاً في الحج {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان. {الحج أَشْهُرٌ} أي وقته. كقولك البرد شهران. {معلومات} معروفات وهي: شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة بليلة النحر عندنا، والعشر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وذي الحجة كله عند مالك. وبناء على الخلاف على أن المراد بوقته وقت إحرامه، أو وقت أعماله ومناسكه، أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقاً، فإن مالكاً كره العمرة في بقية ذي الحجة. وأبو حنيفة رحمه الله وإن صح الإِحرام به قبل شوال فقد استكرهه. وإنما سمي شهران وبعض شهر أشهراً إقامة للبعض مقام الكل، أو إطلاقاً للجمع على ما فوق الواحد. {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن عندنا، أو بالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو دليل على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى وأن من أحرم بالحج لزمه الإِتمام. {فَلاَ رَفَثَ} فلا جماع، أو فلا فحش من الكلام. {وَلاَ فُسُوقَ} ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات. {وَلاَ جِدَالَ} ولا مراء مع الخدم والرفقة. {فِي الحج} في أيامه، نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح كلبسة الحرير في الصلاة. والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأولين بالرفع على معنى: لا يكونن رفث ولا فسوق. والثالث بالفتح على معنى إلا خبار بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أن قريشاً كانت تحالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، فارتفع الخلاف بأن أمروا أن يقعوا أيضاً بعرفة. {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} حث على الخير عقب به النهي عن الشر ليستدل به ويستعمل مكانه. {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} وتزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد، وقيل: نزلت في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس، فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإِبرام في السؤال والتثقيل على الناس.
{واتقون يأُوْلِي الألباب} فإن قضية اللب خشية الله وتقواه، حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه، وهو مقتضى العقل المعري عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ} أي في أن تبتغوا أي تطلبوا. {فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} عطاء ورزقاً منه، يريد الربح بالتجارة، وقيل: كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يقيمونها مواسم الحج، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت. {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} دفعتم منها بكثرة، من أفضت الماء إذا صببته بكثرة. وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في دفعت من البصرة. و{عرفات} جمع سمي به كأذرعات، وإنما نون وكسر وفيه العلمية والتأنيث لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكين ولذلك يجمع مع اللام، وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك. أو لأن التأنيث إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث. وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، أو بتاء مقدرة كما في سعاد ولا يصح تقديرها لأن المذكورة تمنعه من حيث إنها كالبدل لها لاختصاصها بالمأنث كتاء بنت، وإنما سمي الموقف عرفة لأنه نعت لإِبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه السلام كان يدور به في المشاعر فلما أراه إياه قال قد عرفت، أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا. أو لأن الناس يتعارفون فيه. وعرفات للمبالغة في ذلك وهي من الأسماء المرتجلة إلا أن يجعل جمع عارف، وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ} أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب بل مستحب. وعلى تقدير أنه واجب فهو واجب مقيد لا واجب مطلق حتى تجب مقدمته والأمر به غير مطلق. {فاذكروا الله} بالتلبية والتهليل والدعاء. وقيل: بصلاة العشاءين. {عِندَ المشعر الحرام} جبل يقف عليه الإمام ويسمى (قزح). وقيل: ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر، ويؤيد الأول ما روي جابر: أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الفجر يعني بالمزدلفة بغلس، ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفاً حتى أسفر وإنما سمي مشعراً لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرام لحرمته: ومعنى عند المشعر الحرام: مما يليه ويقرب منه فإنه أفضل، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر. {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} كما علمكم، أو اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها. وما مصدرية أو كافة. {وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ} أي الهُدى.
{لَمِنَ الضالين} أي الجاهلين بالإيمان والطاعة، وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. وقيل؛ إن نافية واللام بمعنى إلا، كقوله تعالى: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} أي من عرفة لا من المزدلفة، والخطاب مع قريش كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعاً عليهم، فأمروا بأن يساووهم. وثم لتفاوت ما بين الإِفاضتين كما في قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم. وقيل: من المزدلفة إلى منى بعد الإِفاضة من عرفة إليها والخطاب عام. وقرئ: {الناس} بالكسر أي الناسي يريد آدم من قوله سبحانه وتعالى: {فَنَسِيَ} والمعنى أن الإِفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه. {واستغفروا الله} من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه. {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه.